فصل: تفسير الآية رقم (64)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


الجزء الثاني

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ‏}‏‏.‏

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ‏}‏، وَإِذِ اسْتَسْقَانَا مُوسَى لِقَوْمِهِ، أَيْ سَأَلَنَا أَنْ نَسْقِيَ قَوْمَهُ مَاءً‏.‏ فَتَرَكَ ذِكَرَ الْمَسْئُولِ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى، إِذْ كَانَ فِيمَا ذَكَرَ مِنَ الْكَلَامِ الظَّاهِرِ دَلَالَةٌ عَلَى مَعْنَى مَا تَرَكَ‏.‏

وَكَذَلِكَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا‏}‏، مِمَّا اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ عَلَى الْمَتْرُوكِ مِنْهُ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ، فَضَرَبَهُ، فَانْفَجَرَتْ‏.‏ فَتُرِكَ ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ ضَرْبِ مُوسَى الْحَجَرَ، إِذْ كَانَ فِيمَا ذَكَرَ دَلَالَةً عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَدْ عَلِمَ كُلُ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ‏}‏، إِنَّمَا مَعْنَاهُ‏:‏ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مِنْهُمْ مَشْرَبَهُمْ‏.‏ فَتُرِكَ ذِكْرُ ‏"‏مِنْهُم‏"‏ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ ‏"‏أُنَاس‏"‏ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَأَنَّ ‏"‏الْإِنْسَان‏"‏ لَوْ جُمِعَ عَلَى لَفْظِهِ لَقِيلَ‏:‏ أَنَاسِيُّ وَأَنَاسِيَةُ‏.‏

وَقَوْمُ مُوسَى هَمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَصَصَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ‏.‏ وَإِنَّمَا اسْتَسْقَى لَهُمْ رَبَّهُ الْمَاءَ فِي الْحَالِ الَّتِي تَاهُوا فِيهَا فِي التِّيهِ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ‏}‏الْآيَةَ قَالَ، كَانَ هَذَا إِذْ هُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ اشْتَكَوْا إِلَى نَبِيِّهِمُ الظَّمَأَ، فَأُمِرُوا بِحَجَرٍ طُورِيٍّ- أَيْ مِنَ الطَّوْرِ- أَنْ يَضْرِبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ‏.‏ فَكَانُوا يَحْمِلُونَهُ مَعَهُمْ، فَإِذَا نَـزَلُوا ضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ مَعْلُومَةٌ مُسْتَفِيضٌ مَاؤُهَا لَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ

، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ ذَلِكَ فِي التِّيهِ؛ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، وَأَنْـزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَجَعَلَ لَهُمْ ثِيَابًا لَا تَبْلَى وَلَا تَتَّسِخُ، وَجُعِلَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمِ حَجَرٌ مُرَبَّعٌ، وَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْهُ ثَلَاثُ عُيُونٍ، لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ؛ وَلَا يَرْتَحِلُونَ مَنْقَلَةً إِلَّا وَجَدُوا ذَلِكَ الْحَجَرَ مَعَهُمْ بِالْمَكَانِ الَّذِي كَانَ بِهِ مَعَهُمْ فِي الْمَنْـزِلِ الْأَوَّلِ‏.‏‏.‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ قَالَ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ ذَلِكَ فِي التِّيهِ‏.‏ ضَرَبَ لَهُمْ مُوسَى الْحَجَرَ، فَصَارَ فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا مِنْ مَاءٍ، لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنٌ يَشْرَبُونَ مِنْهَا‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا‏}‏ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنٌ‏.‏ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ فِي تِيهِهِمْ حِينَ تَاهُوا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ خَافُوا الظَّمَأَ فِي تِيهِهِمْ حِينَ تَاهُوا، فَانْفَجَرَ لَهُمُ الْحَجَرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا، ضَرْبَهُ مُوسَى‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏الْأَسْبَاط‏)‏ بَنُو يَعْقُوبَ، كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَدَ سِبْطًا، أُمَّةً مِنَ النَّاسِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ اسْتَسْقَى لَهُمْ مُوسَى فِي التِّيهِ، فَسَقَوْا فِي حَجَرٍ مِثْلِ رَأْسِ الشَّاةِ، قَالَ‏:‏ يُلْقُونَهُ فِي جَوَانِبِ الْجَوَالِقِ إِذَا ارْتَحَلُوا، وَيَقْرَعُهُ مُوسَى بِالْعَصَا إِذَا نَـزَلَ، فَتَنْفَجِرُ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنٌ، فَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَشْرَبُونَ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ الرَّحِيلُ اسْتَمْسَكَتِ الْعُيُونُ، وَقِيلَ بِهِ فَأُلْقِيَ فِي جَانِبِ الْجُوَالِقِ‏.‏ فَإِذَا نَـزَلَ رَمَى بِهِ، فَقَرَعَهُ بِالْعَصَا، فَتَفَجَّرَتْ عَيْنٌ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ مِثْلُ الْبَحْرِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ كَانَ ذَلِكَ فِي التِّيهِ‏.‏

وَأَمَّاقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَدْ عَلِمَ كُلُ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ‏}‏، فَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ‏.‏ لِأَنَّ مَعْنَاهُمْ- فِي الَّذِي أَخْرَجَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لَهُمْ مِنَ الْحَجَرِ، الَّذِي وَصَفَ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صِفَتَهُ- مِنَ الشُّرْبِ كَانَ مُخَالِفًا مَعَانِي سَائِرِ الْخَلْقِ فِيمَا أَخْرَجَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْمِيَاهِ مِنَ الْجِبَالِ وَالْأَرْضِينَ، الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ جَعَلَ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنَ الْأَسْبَاطِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، عَيْنًا مِنَ الْحَجَرِ الَّذِي وُصِفَ صِفَتُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، يَشْرَبُ مِنْهَا دُونَ سَائِرِ الْأَسْبَاطِ غَيْرِهِ، لَا يَدْخُلُ سِبْطٌ مِنْهُمْ فِي شُرْبِ سِبْطٍ غَيْرِهِ‏.‏ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ لِكُلِّ عَيْنٍ مِنْ تِلْكَ الْعُيُونِ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ، مَوْضِعٌ مِنَ الْحَجَرِ قَدْ عَرَفَهُ السِّبْطُ الَّذِي مِنْهُ شُرْبُهُ‏.‏ فَلِذَلِكَ خَصَّ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هَؤُلَاءِ بِالْخَبَرِ عَنْهُمْ‏:‏ أَنَّ كُلَّ أُنَاسٍ مِنْهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَشْرَبِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ‏.‏ إِذْ كَانَ غَيْرُهُمْ- فِي الْمَاءِ الَّذِي لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ- شُرَكَاءَ فِي مَنَابِعِهِ وَمَسَايِلِهِ‏.‏ وَكَانَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مُفْرَدًا بِشُرْبِ مَنْبَعٍ مِنْ مَنَابِعِ الْحَجَرِ- دُونَ سَائِرِ مَنَابِعِهِ- خَاصٌّ لَهُمْ دُونَ سَائِرِ الْأَسْبَاطِ غَيْرِهِمْ‏.‏ فَلِذَلِكَ خَصُّوا بِالْخَبَرِ عَنْهُمْ‏:‏ أَنَّ كُلَّ أُنَاسٍ مِنْهُمْ قَدْ عَلِمُوا مَشْرَبَهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْهُ، عَنْ ذِكْرِهِ مَا تُرِكَ ذِكْرُهُ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ‏}‏، فَضَرَبَهُ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ‏:‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ‏.‏ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِأَكْلِ مَا رَزَقَهُمْ فِي التِّيهِ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَبِشُرْبِ مَا فَجَّرَ لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ الْمُتَعَاوَرِ، الَّذِي لَا قَرَارَ لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ ‏[‏إِلَّا‏]‏ لِمَالِكِيهِ، يَتَدَفَّقُ بِعُيُونِ الْمَاءِ، وَيَزْخَرُ بِيَنَابِيعِ الْعَذْبِ الْفُرَاتِ، بِقُدْرَةِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏.‏

ثُمَّ تَقَدَّمَ جَلَّ ذِكْرُهُ إِلَيْهِمْ- مَعَ إِبَاحَتِهِمْ مَا أَبَاحَ، وَإِنْعَامِهِ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَيْشِ الْهَنِيءِ- بِالنَّهْيِ عَنِ السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَالْعَثَا فِيهَا اسْتِكْبَارًا، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏‏.‏

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَا تَعْثُوَا‏)‏ لَا تَطْغَوْا، وَلَا تَسْعَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تَسْعَوْا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِيقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏لَا تَعِثْ‏:‏ لَا تَطْغَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏، أَيْ لَا تَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ قَالَ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِيُ رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏، لَا تَسْعَوْا فِي الْأَرْضِ‏.‏

وَأَصْلُ ‏"‏الْعَثَا‏"‏ شِدَّةُ الْإِفْسَادِ، بَلْ هُوَ أَشَدُّ الْإِفْسَادِ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ عَثِيَ فُلَانٌ فِي الْأَرْضِ ‏"‏- إِذَا تَجَاوَزَ فِي الْإِفْسَادِ إِلَى غَايَتِهِ-‏"‏ يَعْثَى عَثَا ‏"‏مَقْصُورٌ، وَلِلْجَمَاعَةِ‏:‏ هُمْ يَعْثَوْنَ‏.‏ وَفِيهِ لُغَتَانِ أُخْرَيَانِ، إِحْدَاهُمَا‏:‏ ‏"‏ عَثَا يَعْثُو عُثُوًّا‏"‏‏.‏ وَمَنْ قَرَأَهَا بِهَذِهِ اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَضُمَّ الثَّاءَ مِنْ ‏"‏يَعْثُو‏"‏، وَلَا أَعْلَمُ قَارِئًا يُقْتَدَى بِقِرَاءَتِهِ قَرَأَ بِهِ‏.‏ وَمَنْ نَطَقَ بِهَذِهِ اللُّغَةِ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ قَالَ‏:‏ ‏"‏ عَثَوْتُ أَعْثُو‏"‏، وَمَنْ نَطَقَ بِاللُّغَةِ الْأُولَى قَالَ‏:‏ عَثِيتُ أَعْثَى‏"‏‏.‏

وَالْأُخْرَى مِنْهُمَا‏:‏ عَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا وَعُيُوثًا وَعَيْثَانًا، كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ‏.‏ وَمِن‏"‏ الْعَيْثِ ‏"‏ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ‏:‏

وَعَاثَ فِينَا مُسْتَحِلٌّ عَائِثٌ *** مُصَدِّقٌ أَوْ تَاجِرٌ مُقَاعِثُ

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏عَاثَ فِينَا‏)‏، أَفْسَدَ فِينَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا‏}‏‏.‏

قَدْ دَلَّلْنَا- فِيمَا مَضَى قَبْلُ- عَلَىمَعْنَى ‏"‏الصَّبْرِ ‏"‏وَأَنَّهُ كَفُّ النَّفْسِ وَحَبْسُهَا عَنِ الشَّيْءِ‏.‏ فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْنَى الْآيَةِ إِذًا‏:‏ وَاذْكُرُوا إِذْ قُلْتُمْ- يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ-‏:‏ لَنْ نُطِيقَ حَبْسَ أَنْفُسِنَا عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ- وَذَلِك‏"‏ الطَّعَامُ الْوَاحِدُ‏"‏، هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ أَطْعَمَهُمُوهُ فِي تِيهِهِمْ، وَهُوَ ‏"‏السَّلْوَى‏"‏ فِي قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَفِي قَوْلِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ هُوَ ‏"‏الْخُبْزُ النَّقِيُّ مَعَ اللَّحْم‏"‏- فَاسْأَلْ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنَ الْبَقْلِ وَالْقِثَّاءِ، وَمَا سَمَّى اللَّهُ مَعَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ مُوسَى‏.‏

وَكَانَ سَبَبُ مَسْأَلَتِهِمْ مُوسَى ذَلِكَ فِيمَا بَلَغَنَا، مَا‏:‏

حَدَّثَنَا بِهِ بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ الْقَوْمُ فِي الْبَرِّيَّةِ قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامُ، وَأُنْـزِلَ عَلَيْهِمُ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، فَمَلُّوا ذَلِكَ، وَذَكَرُوا عَيْشًا كَانَ لَهُمْ بِمِصْرَ، فَسَأَلُوهُ مُوسَى‏.‏ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِيقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ مَلُّوا طَعَامَهُمْ، وَذَكَرُوا عَيْشَهُمُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ، قَالُوا‏:‏ ‏{‏ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجُ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا‏}‏ الْآيَةُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ طَعَامُهُمُ السَّلْوَى، وَشَرَابُهُمُ الْمَنُّ، فَسَأَلُوا مَا ذُكِرَ، فَقِيلَ لَهُمُ‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَالَ قَتَادَةُ‏:‏ إِنَّهُمْ لَمَّا قَدِمُوا الشَّامَ فَقَدُوا أَطْعِمَتَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَأْكُلُونَهَا، فَقَالُوا‏:‏ ‏{‏ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا‏}‏، وَكَانُوا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامُ، وَأُنْـزِلَ عَلَيْهِمُ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، فَمَلُّوا ذَلِكَ، وَذَكَرُوا عَيْشًا كَانُوا فِيهِ بِمِصْرَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى قَالَ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ‏}‏، الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، فَاسْتَبْدَلُوا بِهِ الْبَقْلَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِمِثْلِهِ سَوَاءً‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِمِثْلِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ أُعْطُوا فِي التِّيهِ مَا أُعْطُوا، فَمَلُّوا ذَلِكَ وَقَالُوا‏:‏ ‏{‏يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ زَيْدٍ قَالَ‏:‏ كَانَطَعَامُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِوَاحِدًا، وَشَرَابُهُمْ وَاحِدًا‏.‏ كَانَ شَرَابُهُمْ عَسَلًا يَنْـزِلُ لَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ الْمَنُّ، وَطَعَامُهُمْ طَيْرٌ يُقَالُ لَهُ السَّلْوَى، يَأْكُلُونَ الطَّيْرَ وَيَشْرَبُونَ الْعَسَلَ، لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ خُبْزًا وَلَا غَيْرَهُ‏.‏ فَقَالُوا‏:‏ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا‏"‏، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ‏}‏‏.‏

وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ‏}‏- وَلَمْ يَذْكُرِ الَّذِي سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ لِيَخْرُجَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، فَيَقُولُ‏:‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجُ لَنَا كَذَا وَكَذَا مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا- لِأَنَّ ‏"‏مِن‏"‏ تَأْتِي بِمَعْنَى التَّبْعِيضِ لِمَا بَعْدَهَا، فَاكْتُفِيَ بِهَا عَنْ ذِكْرِ التَّبْعِيضِ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا بِدُخُولِهَا مَعْنَى مَا أُرِيدَ بِالْكَلَامِ الَّذِي هِيَ فِيهِ‏.‏ كَقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ أَصْبَحَ الْيَوْمَ عِنْدَ فُلَانٍ مِنَ الطَّعَامِ ‏"‏ يُرِيدُ شَيْئًا مِنْهُ‏.‏

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏(‏مِن‏)‏ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْإِلْغَاءِ وَالْإِسْقَاطِ‏.‏ كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ‏:‏ يُخْرِجُ لَنَا مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا‏.‏ وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الْعَرَبِ‏:‏ ‏(‏مَا رَأَيْتُ مِنْ أَحَد‏)‏ بِمَعْنَى‏:‏ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا، وَبِقَولِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 271‏]‏، وَبِقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏(‏قَدْ كَانَ مِنْ حَدِيثٍ، فَخَلِّ عَنِّي حَتَّى أَذْهَبَ‏)‏، يُرِيدُونَ‏:‏ قَدْ كَانَ حَدِيثٌ‏.‏

وَقَدْ أَنْكَرُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ جَمَاعَةٌ أَنْ تَكُونَ ‏"‏مِن‏"‏ بِمَعْنَى الْإِلْغَاءِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَادَّعَوْا أَنَّ دُخُولَهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ دَخَلَتْ فِيهِ، مُؤْذِنٌ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مُرِيدٌ لِبَعْضِ مَا أُدْخِلَتْ فِيهِ لَا جَمِيعِهِ، وَأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي مَوْضِعٍ إِلَّا لِمَعْنَى مَفْهُومٍ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا- عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ أَمْرِ ‏"‏مِن‏"‏-‏:‏ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجُ لَنَا بَعْضَ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا‏.‏

وَ ‏"‏الْبَقْل‏"‏ وَ‏"‏ الْقِثَّاءُ ‏"‏وَ‏"‏ الْعَدَس‏"‏ وَ‏"‏ الْبَصَلُ‏"‏، هُوَ مَا قَدْ عَرَفَهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ وَحَبِّهَا‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏ الْفُومُ‏"‏، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِيهِ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ الْحِنْطَةُ وَالْخُبْزُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ وَمُؤَمَّلٌ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ‏:‏ الْفُومُ‏:‏، الْخُبْزُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَفُومِهَا‏)‏ قَالَا خُبْزَهَا‏.‏

حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏(‏وَفُومِهَا‏)‏، قَالَ‏:‏ الْخُبْزُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ‏:‏ الْفُومُ، هُوَ الْحَبُّ الَّذِي يَخْتَبِزُهُ النَّاسُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ بِمِثْلِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَفُومِهَا‏)‏ قَالَ‏:‏ الْحِنْطَةُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏(‏وَفُومِهَا‏)‏، الْحِنْطَةُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسِ، عَنِ الْحَسَنِ وَحُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَفُومِهَا‏)‏، الْحِنْطَةُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ الْفُومُ، الْحَبُّ الَّذِي يَخْتَبِزُ النَّاسُ مِنْهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ لِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَفُومِهَا‏)‏، قَالَ‏:‏ خُبْزُهَا، قَالَهَا مُجَاهِدٌ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ لِي ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ الْفُومُ، الْخُبْزُ‏.‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ السَّهْمِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَفُومِهَا‏)‏ يَقُولُ‏:‏ الْحِنْطَةُ وَالْخُبْزُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ قَالَ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَفُومِهَا‏)‏ قَالَ‏:‏ هُوَ الْبُرُّ بِعَيْنِهِ، الْحِنْطَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْجَرْمِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ رِشْدِينَ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏(‏وَفُومِهَا‏)‏ قَالَ‏:‏ الْفُومُ، الْحِنْطَةُ بِلِسَانِ بَنِي هَاشِمٍ‏.‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي نَعِيمٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏وَفُومِهَا‏)‏، قَالَ‏:‏ الْحِنْطَةُ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ وَهُوَ يَقُولُ‏:‏

قَدْ كُنْتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصًا وَاحِدًا

وَرَدَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ الثُّومُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ هُوَ هَذَا الثُّومُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ‏:‏ الْفُومُ، الثُّومُ‏.‏

وَهُوَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ ‏"‏ وَثُومِهَا‏"‏‏.‏

وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْحِنْطَةِ وَالْخُبْزِ جَمِيعًا ‏"‏فُومًا‏"‏ مِنَ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ‏.‏ حُكِيَ سَمَاعًا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ‏:‏ ‏(‏فَوِّمُوا لَنَا‏)‏، بِمَعْنَى اخْتَبِزُوا لَنَا‏.‏

وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏وَثُومِهَا‏)‏ بِالثَّاءِ‏.‏ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا، فَإِنَّهُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُبَّدَلَةِ كَقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏(‏وَقَعُوا فِي عَاثُورِ شَرٍّ‏:‏ وَعَافُورِ شَر‏)‏ وَكَقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏ لِلْأَثَافِيِّ، أَثَاثِيُّ؛ وَلِلْمَغَافِيرِ، مَغَاثِير‏"‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا تُقْلَبُ الثَّاءُ فَاءً وَالْفَاءُ ثَاءً، لِتَقَارُبِ مَخْرَجِ الْفَاءِ مِنْ مَخْرَجِ الثَّاءِ‏.‏ وَ‏"‏ الْمَغَافِيرُ ‏"‏ شَبِيهٌ بِالشَّيْءِ الْحُلْوِ، يُشَبَّهُ بِالْعَسَلِ، يَنْـزِلُ مِنَ السَّمَاءِ حُلْوًا، يَقَعُ عَلَى الشَّجَرِ وَنَحْوِهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل ِقَوْلِه تَعَالَى ‏{‏قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ‏}‏‏.‏

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَهُمْ مُوسَى‏:‏ أَتَأْخُذُونَ الَّذِي هُوَ أَخَسُّ خَطَرًا وَقِيمَةً وَقَدْرًا مِنَ الْعَيْشِ، بَدَلًا بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ خَطَرًا وَقَيِمَةً وَقَدْرًا‏؟‏ وَذَلِكَ كَانَ اسْتِبْدَالَهُمْ‏.‏

وَأَصْلُ ‏"‏ الِاسْتِبْدَالِ ‏"‏‏:‏ هُوَ تَرْكُ شَيْءٍ لِآخَرٍ غَيْرِهِ مَكَانَ الْمَتْرُوكِ‏.‏

وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَدْنَى‏)‏ أَخَسُّ وَأَوْضَعُ وَأَصْغَرُ قَدْرًا وَخَطَرًا‏.‏ وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏(‏هَذَا رَجُلٌ دَنِيٌّ بَيِّنُ الدَّنَاءَة‏)‏ وَ‏"‏ إِنَّهُ لَيُدَنِّي فِي الْأُمُورِ ‏"‏بِغَيْرِ هَمْزٍ، إِذَا كَانَ يَتَتَبَّعُ خَسِيسَهَا‏.‏ وَقَدْ ذُكِرَ الْهَمْزُ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ، سَمَاعًا مِنْهُمْ‏.‏ يَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏ مَا كُنْتَ دَانِئًا، وَلَقَدْ دَنَأَتْ، وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ غَيْرِهِ، أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ بَنِي كِلَابٍ يُنْشِدُ بَيْتَ الْأَعْشَى‏:‏

بَاسِـلَةُ الْـوَقْعِ سَـرَابِيلُهَا *** بَيـضٌ إِلَـى دَانِئِهَـا الظَّـاهِرِ

بِهَمْزِ الدَّانِئِ، وَأَنَّهُ سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ لَدَانِئٌ خَبِيث‏)‏ بِالْهَمْزِ‏.‏ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْهُمْ صَحِيحًا، فَالْهَمْزُ فِيهِ لُغَةٌ، وَتَرْكُهُ أُخْرَى‏.‏

وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنِ اسْتَبْدَلَ بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى الْبَقْلَ وَالْقِثَّاءَ وَالْعَدَسَ وَالْبَصَلَ وَالثُّومَ، فَقَدِ اسْتَبْدَلَ الْوَضِيعَ مِنَ الْعَيْشِ بِالرَّفِيعِ مِنْهُ‏.‏

وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏الَّذِي هُوَ أَدْنَى‏)‏ بِمَعْنَى‏:‏ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَدْنَى‏)‏، إِلَى أَنَّهُ أَفْعَلُ مِنَ ‏"‏الدُّنُو‏"‏ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْقُرْبِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِيمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِي هُوَ أَدْنَى‏}‏قَالَهُ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ ‏{‏أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ شَرٌّ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِي هُوَ أَدْنَى‏}‏ قَالَ‏:‏ أَرْدَأُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ‏}‏‏.‏

وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ‏:‏ فَدَعَا مُوسَى، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ، فَقُلْنَا لَهُمُ‏:‏ ‏(‏اهْبِطُوا مِصْرًا‏)‏، وَهُوَ مِنَ الْمَحْذُوفِ الَّذِي اجْتُزِئَ بِدَلَالَةِ ظَاهِرِهِ عَلَى ذِكْرِ مَا حُذِفَ وَتُرِكَ مِنْهُ‏.‏

وَقَدْ دَلَّلْنَا- فِيمَا مَضَى- عَلَى أَنَّ مَعْنَى ‏"‏الْهُبُوط‏"‏ إِلَى الْمَكَانِ، إِنَّمَا هُوَ النُّـزُولُ إِلَيْهِ وَالْحُلُولُ بِهِ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا‏:‏ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ، فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا‏.‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى‏:‏ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَخَسُّ وَأَرْدَأُ مِنَ الْعَيْشِ، بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ‏.‏ فَدَعَا لَهُمْ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا سَأَلُوهُ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دُعَاءَهُ، فَأَعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوا، وَقَالَ اللَّهُ لَهُمُ‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ‏}‏‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏(‏مِصْرًا‏)‏ فَقَرَأَهُ عَامَّةُ الْقَرَأَةِ‏:‏ ‏(‏مِصْرًا‏)‏ بِتَنْوِينِ ‏"‏الْمِصْر‏"‏ وَإِجْرَائِهِ‏.‏ وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِتَرْكِ التَّنْوِينِ وَحَذْفِ الْأَلِفِ مِنْهُ‏.‏ فَأَمَّا الَّذِينَ نَوَّنُوهُ وَأَجْرَوْهُ، فَإِنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ، لَا مِصْرًا بِعَيْنِهِ‏.‏ فَتَأْوِيلُهُ- عَلَى قِرَاءَتِهِمُ-‏:‏ اهْبِطُوا مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ، لِأَنَّكُمْ فِي الْبَدْوِ، وَالَّذِي طَلَبْتُمْ لَا يَكُونُ فِي الْبَوَادِي وَالْفَيَافِي، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ، فَإِنَّ لَكُمْ- إِذَا هَبَطْتُمُوهُ- مَا سَأَلْتُمْ مِنَ الْعَيْشِ‏.‏ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالْإِجْرَاءِ وَالتَّنْوِينِ، كَانَ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ عِنْدَهُ‏:‏ ‏(‏اهْبِطُوا مِصْرًا‏)‏ الْبَلْدَةَ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَهِيَ ‏"‏مِصْر‏"‏ الَّتِي خَرَجُوا عَنْهَا‏.‏ غَيْرَ أَنَّهُ أَجْرَاهَا وَنَوَّنَهَا اتِّبَاعًا مِنْهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ، لِأَنَّ فِي الْمُصْحَفِ أَلِفًا ثَابِتَةً فِي ‏"‏مِصْرَ‏"‏، فَيَكُونُ سَبِيلُ قِرَاءَتِهِ ذَلِكَ بِالْإِجْرَاءِ وَالتَّنْوِينِ، سَبِيلَ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ‏}‏ ‏[‏الْإِنْسَانِ‏:‏ ‏]‏ مُنَوَّنَةً اتِّبَاعًا مِنْهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ‏.‏ وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يُنَوِّن‏"‏ مِصْرَ ‏"‏فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ عَنَى‏"‏ مِصْرَ ‏"‏ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَذَا الِاسْمِ بِعَيْنِهَا دُونَ سَائِرِ الْبُلْدَانِ غَيْرِهَا‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، نَظِيرَ اخْتِلَافِ الْقَرَأَةِ فِي قِرَاءَتِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا‏}‏، أَيْ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ، فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ‏.‏

وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا‏}‏ مِنَ الْأَمْصَارِ، فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ‏.‏ فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ التِّيهِ، رُفِعَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى وَأَكَلُوا الْبُقُولَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنِي آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ يَعْنِي مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ‏.‏ زَعَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى مِصْرَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا‏}‏، قَالَ‏:‏ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ‏.‏ وَ‏"‏ مِصْرُ ‏"‏ لَا تُجْرَى فِي الْكَلَامِ‏.‏ فَقِيلَ‏:‏ أَيُّ مِصْرٍ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هِيَ مِصْرُ الَّتِي كَانَ فِيهَا فِرْعَوْنُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا‏}‏ قَالَ‏:‏ يَعْنِي بِهِ مِصْرَ فِرْعَوْنَ‏.‏

حَدَّثَنَا عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلِهِ‏.‏

وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا‏}‏، مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ دُونَ ‏"‏مِصْر‏"‏ فِرْعَوْنَ بِعَيْنِهَا-‏:‏ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ أَرْضَ الشَّامِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَسَاكِنَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مِصْرَ‏.‏ وَإِنَّمَا ابْتَلَاهُمْ بِالتِّيهِ بِامْتِنَاعِهِمْ عَلَى مُوسَى فِي حَرْبِ الْجَبَابِرَةِ، إِذْ قَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ ‏]‏، فَحَرَّمَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى قَائِلِي ذَلِكَ- فِيمَا ذَكَرَ لَنَا- دُخُولَهَا حَتَّى هَلَكُوا فِي التِّيهِ‏.‏ وَابْتَلَاهُمْ بِالتَّيَهَانِ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَهْبَطَ ذُرِّيَّتَهُمُ الشَّأْمَ، فَأَسْكَنَهُمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، وَجَعَلَ هَلَاكَ الْجَبَابِرَةِ عَلَى أَيْدِيهِمْ مَعَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ- بَعْدَ وَفَاةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ‏.‏ فَرَأَيْنَا اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ كَتَبَ لَهُمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا عَنْهُمْ أَنَّهُ رَدَّهُمْ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنْهَا، فَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْرَأَ‏:‏ ‏(‏اهْبِطُوا مِصْرَ‏)‏، وَنَتَأَوَّلُهُ أَنَّهُ رَدَّهُمْ إِلَيْهَا‏.‏

قَالُوا‏:‏ فَإِنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ ‏]‏ قِيلَ لَهُمْ‏:‏ فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَوْرَثَهُمْ ذَلِكَ، فَمَلَّكَهُمْ إِيَّاهَا وَلَمْ يَرُدَّهُمْ إِلَيْهَا، وَجَعَلَ مَسَاكِنَهُمُ الشَّأْمَ‏.‏

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرَ‏}‏ مِصْرَ؛ فَإِنَّ مِنْ حُجَّتِهِمُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا الْآيَةَ الَّتِي قَالَ فِيهَا‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ ‏]‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ‏}‏ ‏[‏الدُّخَانِ‏:‏ ‏]‏، قَالُوا‏:‏ فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ قَدْ وَرَّثَهُمْ ذَلِكَ وَجَعَلَهَا لَهُمْ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرِثُونَهَا ثُمَّ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَلَا يَكُونُونَ مُنْتَفِعِينَ بِهَا إِلَّا بِمَصِيرِ بَعْضِهِمْ إِلَيْهَا، وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا، إِنْ لَمْ يَصِيرُوا، أَوْ يَصِرْ بَعْضُهُمْ إِلَيْهَا‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَأُخْرَى، أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏اهْبِطُوا مِصْر‏)‏ بِغَيْرِ أَلِفٍ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَفِي ذَلِكَ الدَّلَالَةُ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا ‏"‏مِصْر‏"‏ بِعَيْنِهَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالَّذِي نَقُولُ بِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى الصَّوَابِ مِنْ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ، وَلَا خَبَرَ بِهِ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَعُ مَجِيئُهُ الْعُذْرَ‏.‏ وَأَهْلُ التَّأْوِيلِ مُتَنَازِعُونَ تَأْوِيلَهُ، فَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ مُوسَى سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعْطِيَ قَوْمَهُ مَا سَأَلُوهُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ- عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ فِي كِتَابِهِ- وَهُمْ فِي الْأَرْضِ تَائِهُونَ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِمُوسَى دُعَاءَهُ، وَأَمْرَهُ أَنْ يَهْبِطَ بِمَنْ مَعَهُ مَنْ قَوْمِهِ قَرَارًا مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي تُنْبِتُ لَهُمْ مَا سَأَلَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ الَّذِي سَأَلُوهُ لَا تُنْبِتُهُ إِلَّا الْقُرَى وَالْأَمْصَارُ، وَأَنَّهُ قَدْ أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ إِذْ صَارُوا إِلَيْهِ‏.‏ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَرَارُ ‏"‏مِصْرَ‏"‏، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُون‏"‏ الشَّأْمَ‏"‏‏.‏

فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَإِنَّهَا بِالْأَلْفِ وَالتَّنْوِينِ‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا‏}‏ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ عِنْدِي غَيْرُهَا، لِاجْتِمَاعِ خُطُوطِ مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، وَاتِّفَاقِ قِرَاءَةِ الْقَرَأَةِ عَلَى ذَلِكَ‏.‏ وَلَمْ يَقْرَأْ بِتَرْكِ التَّنْوِينِ فِيهِ وَإِسْقَاطِ الْأَلِفِ مِنْهُ، إِلَّا مَنْ لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْحُجَّةِ، فِيمَا جَاءَتْ بِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ مُسْتَفِيضًا بَيْنَهُمَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل ِقَوْلِه تَعَالَى ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَضُرِبَتْ‏)‏ أَيْ فُرِضَتْ‏.‏ وَوُضِعَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَأُلْزِمُوهَا‏.‏ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏ضَرَبَ الْإِمَامُ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّة‏)‏ وَ‏"‏ ضَرَبَ الرَّجُلُ عَلَى عَبْدِهِ الْخَرَاجَ ‏"‏يَعْنِي بِذَلِكَ وَضَعَهُ فَأَلْزَمَهُ إِيَّاهُ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏ ضَرَبَ الْأَمِيرُ عَلَى الْجَيْشِ الْبَعْثَ‏"‏، يُرَادُ بِهِ‏:‏ أُلْزِمُهُمُوهُ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏الذِّلَّة‏"‏ فَهِيَ ‏"‏الْفِعْلَة‏"‏ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ذَلَّ فُلَانٌ يَذِلُّ ذُلًّا وَذِلَّةً‏"‏، كَـ ‏"‏الصِّغْرَة‏"‏ مِنْ ‏"‏صَغُرَ الْأَمْرُ‏"‏، وَ‏"‏ الْقِعْدَة‏"‏ مِنْ ‏"‏ قَعَدَ‏"‏‏.‏

وَ ‏"‏الذِّلَّة‏"‏ هِيَ الصَّغَارُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُعْطُوهُمْ أَمَانًا عَلَى الْقَرَارِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ بِهِ وَبِرَسُولِهِ- إِلَّا أَنْ يَبْذُلُوا الْجِزْيَةَ عَلَيْهِ لَهُمْ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 29‏]‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ‏}‏، قَالَا يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏الْمَسْكَنَة‏"‏ فَإِنَّهَا مَصْدَرُ ‏"‏الْمِسْكِينِ‏"‏‏.‏ يُقَالُ‏:‏ ‏"‏ مَا فِيهِمْ أَسْكَنُ مِنْ فُلَانٍ ‏"‏وَ‏"‏ مَا كَانَ مِسْكِينًا‏"‏ وَ‏"‏ لَقَدْ تَمَسْكَنَ مَسْكَنَةً‏"‏‏.‏ وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏تَمَسْكَنَ تَمَسْكُنًا‏)‏‏.‏ وَ‏"‏ الْمَسْكَنَة‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَسْكَنَةُ الْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ، وَهِيَ خُشُوعُهَا وَذُلُّهَا، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَالْمَسْكَنَةُ‏)‏ قَالَ‏:‏ الْفَاقَةُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْفَقْرُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ‏}‏، قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ يَهُودُ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏ قُلْتُ لَهُ‏:‏ هُمْ قِبْطُ مِصْرَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَمَا لِقِبْطِ مِصْرَ وَهَذَا، لَا وَاللَّهِ مَا هُمْ هُمْ، وَلَكِنَّهُمُ الْيَهُودُ، يَهُودُ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏

فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ بِالْعِزِّ ذُلًّا وَبِالنِّعْمَةِ بُؤْسًا، وَبِالرِّضَا عَنْهُمْ غَضَبًا، جَزَاءً مِنْهُ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِآيَاتِهِ، وَقَتْلِهِمْ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، اعْتِدَاءً وَظُلْمًا مِنْهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَعِصْيَانِهِمْ لَهُ، وَخِلَافًا عَلَيْهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل ِقَوْلِه تَعَالَى ‏{‏وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏، انْصَرَفُوا وَرَجَعُوا‏.‏ وَلَا يُقَالُ ‏"‏بَاؤُوا‏"‏ إِلَّا مَوْصُولًا إِمَّا بِخَيْرٍ، وَإِمَّا بِشَرٍّ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏بَاءَ فُلَانٌ بِذَنْبِهِ يَبُوءُ بِهِ بَوْءًا وَبَوَاءً‏)‏‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 29‏]‏ يَعْنِي‏:‏ تَنْصَرِفُ مُتَحَمِّلَهُمَا وَتَرْجِعُ بِهِمَا، قَدْ صَارَا عَلَيْكَ دُونِي‏.‏

فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا‏:‏ وَرَجَعُوا مُنْصَرِفِينَ مُتَحَمِّلِينَ غَضَبَ اللَّهِ، قَدْ صَارَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ غَضَبٌ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ سُخْطٌ‏.‏ كَمَا‏:‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ فَحَدَثَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَ، أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ اسْتَحَقُّوا الْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ‏.‏

وَقَدَّمْنَا مَعْنَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل ِقَوْلِه تَعَالَى ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏ذَلِك‏)‏ ضَرْبَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ، وَإِحْلَالَهُ غَضَبَهُ بِهِمْ‏.‏ فَدَلَّ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏ذَلِك‏)‏- وَهِيَ يَعْنِي بِهِ مَا وَصَفْنَا- عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ‏:‏ ذَلِكَ يَشْمَلُ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ إِذَا أُشِيرَ بِهِ إِلَيْهَا‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ‏}‏، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ فَعَلْنَا بِهِمْ- مِنْ إِحْلَالِ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ وَالسُّخْطِ بِهِمْ- مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ‏:‏

مَلِيكِيَّةٌ جَاوَرَتْ بِالْحِجَا

زِ قَوْمًا عُدَاةً وَأَرْضًا شَطِيرَا

بِمَا قَدْ تَرَبَّعَ رَوْضَ الْقِطَا

وَرَوْضَ التَّنَاضِبِ حَتَّى تَصِيرَا

يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ جَاوَرَتْ بِهَذَا الْمَكَانِ، هَذِهِ الْمَرْأَةُ، قَوْمًا عُدَاةً وَأَرْضًا بَعِيدَةً مِنْ أَهْلِهِ- لِمَكَانِ قُرْبِهَا كَانَ مِنْهُ وَمِنْ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ- مِنْ تَرَبُّعِهَا رَوْضَ الْقِطَا وَرَوْضَ التَّنَاضِبِ‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ كَانَ ذَلِكَ مِنَّا بِكُفْرِهِمْ بِآيَاتِنَا، وَجَزَاءً لَهُمْ بِقَتْلِهِمْ أَنْبِيَاءَنَا‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا أَنَّ مَعْنَى ‏"‏الْكُفْرِ ‏"‏‏:‏ تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ وَسَتْرُهُ، وَأَن‏"‏ آيَاتِ اللَّهِ ‏"‏ حُجَجُهُ وَأَعْلَامُهُ وَأَدِلَّتُهُ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ‏.‏

فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا‏:‏ فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْحَدُونَ حُجَجَ اللَّهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَيَدْفَعُونَ حَقِّيَّتَهَا، وَيُكَذِّبُونَ بِهَا‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏‏:‏ وَيَقْتُلُونَ رُسُلَ اللَّهِ الَّذِينَ ابْتَعَثَهُمْ- لِإِنْبَاءِ مَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ عَنْهُ- لِمَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِ‏.‏

وَهُمْ جِمَاعٌ، وَأَحَدُهُمْ ‏"‏نَبِيٌّ‏"‏، غَيْرُ مَهْمُوزٍ، وَأَصْلُهُ الْهَمْزُ، لِأَنَّهُ مِن‏"‏ أَنْبَأَ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ يُنْبِئُ عَنْهُ إِنْبَاءً‏"‏، وَإِنَّمَا الِاسْمُ مِنْهُ، ‏"‏مُنْبِئ‏"‏ وَلَكِنَّهُ صُرِفَ وَهُوَ ‏"‏مُفْعِل‏"‏ إِلَى ‏"‏فَعِيلٍ‏"‏، كَمَا صُرِف‏"‏ سَمِيعٌ ‏"‏إِلَى‏"‏ فَعِيلٍ ‏"‏مِن‏"‏ مُسْمِعٍ‏"‏، وَ‏"‏ بَصِيرٍ ‏"‏مِن‏"‏ مُبْصِرٍ‏"‏، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَأُبْدِلَ مَكَانَ الْهَمْزَةِ مِنَ ‏"‏النَّبِيء‏"‏ الْيَاءُ، فَقِيلَ‏:‏ ‏(‏نَبِيٌّ‏)‏‏.‏ هَذَا وَيُجْمَع‏"‏ النَّبِيُّ ‏"‏أَيْضًا عَلَى‏"‏ أَنْبِيَاءَ‏"‏، وَإِنَّمَا جَمَعُوهُ كَذَلِكَ، لِإِلْحَاقِهِمُ ‏"‏النَّبِيءَ‏"‏، بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ مِنْهُ يَاءً، بِالنُّعُوتِ الَّتِي تَأْتِي عَلَى تَقْدِير‏"‏ فَعِيلٍ ‏"‏مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا جَمَعُوا مَا كَانَ مِنَ النُّعُوتِ عَلَى تَقْدِير‏"‏ فَعِيلٍ ‏"‏مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ، جَمَعُوهُ عَلَى‏"‏ أَفْعِلَاءَ ‏"‏كَقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏ وَلِيٌّ وَأَوْلِيَاءُ‏"‏، وَ‏"‏ وَصِيٌّ وَأَوْصِيَاءُ ‏"‏، وَ‏"‏ دَعِيٌّ وَأَدْعِيَاءُ‏"‏‏.‏ وَلَوْ جَمَعُوهُ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ، وَعَلَى أَنَّ الْوَاحِد‏"‏ نَبِيءٌ ‏"‏مَهْمُوزٌ، لَجَمَعُوهُ عَلَى‏"‏ فُعَلَاءَ‏"‏، فَقِيلَ لَهُمُ ‏"‏النُّبَآءُ‏"‏، عَلَى مِثَال‏"‏ النُّبَهَاءِ‏"‏، لِأَنَّ ذَلِكَ جَمْعُ مَا كَانَ عَلَى فَعِيلٍ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ مِنَ النُّعُوتِ، كَجَمْعِهِمُ الشَّرِيكَ شُرَكَاءَ، وَالْعَلِيمَ عُلَمَاءَ، وَالْحَكِيمَ حُكَمَاءَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏ وَقَدْ حُكِيَ سَمَاعًا مِنَ الْعَرَبِ فِي جَمْعِ ‏"‏النَّبِي‏"‏ ‏"‏ النُّبَآءُ‏"‏، وَذَلِكَ مِنْ لُغَةِ الَّذِينَ يَهْمِزُونَ ‏"‏النَّبِيءَ‏"‏، ثُمَّ يَجْمَعُونَهُ عَلَى‏"‏ النُّبَآءِ ‏"‏- عَلَى مَا قَدْ بَيَّنْتُ‏.‏ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ

بِالْخَيْرِ كُلُ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا

فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ‏)‏، عَلَى أَنَّ وَاحِدَهُم‏"‏ نَبِيءٌ ‏"‏مَهْمُوزٌ‏.‏ وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمُ‏:‏ ‏"‏ النَّبِيُّ ‏"‏وَ‏"‏ النُّبُوَّة‏"‏ غَيْرُ مَهْمُوزٍ، لِأَنَّهُمَا مَأْخُوذَانِ مِنَ ‏"‏النَّبْوَةِ‏"‏، وَهِيَ مِثْل‏"‏ النَّجْوَةِ‏"‏، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَكَانَ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ أَصْلَ ‏"‏النَّبِي‏"‏ الطَّرِيقُ، وَيُسْتَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ بِبَيْتِ الْقَطَّامِيِّ‏:‏

لَمَّا وَرَدْنَ نَبِيًّا وَاسْتَتَبَّ بِهَا

مُسْحَنْفِرٌ كَخُطُوطِ السَّيْحِ مُنْسَحِلُ

يَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا سَمَّى الطَّرِيقَ ‏"‏نَبِيًّا‏"‏، لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ مُسْتَبِينٌ، مِن‏"‏ النُّبُوَّةِ‏"‏‏.‏ وَيَقُولُ‏:‏ لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَهْمِزُ ‏"‏ النَّبِيَّ‏"‏‏.‏ قَالَ‏.‏ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنَّا مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ رُسُلَ اللَّهِ، بِغَيْرِ إِذْنِ اللَّهِ لَهُمْ بِقَتْلِهِمْ، مُنْكِرِينَ رِسَالَتَهُمْ، جَاحِدِينَ نُبُوَّتَهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏{‏ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏ذَلِكَ‏)‏، رَدٌّ عَلَى ‏"‏ذَلِك‏"‏ الْأَوْلَى‏.‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَتْلِهِمُ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، مِنْ أَجْلِ عِصْيَانِهِمْ رَبَّهُمْ، وَاعْتِدَائِهِمْ حُدُودَهُ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏.‏ ‏(‏ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا‏)‏، وَالْمَعْنَى‏:‏ ذَلِكَ بِعِصْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ مُعْتَدِينَ‏.‏

وَ ‏"‏ الِاعْتِدَاءُ‏"‏، تَجَاوُزُ الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ إِلَى غَيْرِهِ‏.‏ وَكُلُّ مُتَجَاوِزٍ حَدَّ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِهِ فَقَدْ تَعَدَّاهُ إِلَى مَا جَاوَزَ إِلَيْهِ‏.‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ فَعَلْتُ بِهِمْ مَا فَعَلْتُ مِنْ ذَلِكَ، بِمَا عَصَوْا أَمْرِي، وَتَجَاوَزُوا حَدِّي إِلَى مَا نَهَيْتُهُمْ عَنْهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ أَمَّا ‏"‏ الَّذِينَ آمَنُوا‏"‏، فَهُمُ الْمُصَدِّقُونَ رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِيمَانُهُمْ بِذَلِكَ تَصْدِيقُهُمْ بِهِ- عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏الَّذِينَ هَادُوا‏"‏، فَهُمُ الْيَهُودُ‏.‏ وَمَعْنَى‏:‏ ‏"‏ هَادُوا‏"‏، تَابُوا‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ هَادَ الْقَوْمُ يَهُودُونَ هَوْدًا وَهَادَةً‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَهُود‏"‏ يَهُودَ‏"‏، مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏{‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏‏.‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 156‏]‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَهُودُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَالنَّصَارَى‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَ ‏"‏النَّصَارَىسَبَبُ تَسْمِيَتِهِمْ بِهَذَا الِاسْمِ ‏"‏ جَمْعٌ، وَاحِدُهُمْ نَصْرَانِ، كَمَا وَاحِدُ السُّكَارَى سَكْرَانِ، وَوَاحِدُ النَّشَاوَى نَشْوَانِ‏.‏ وَكَذَلِكَ جَمَعُ كُلِّ نَعْتٍ كَانَ وَاحِدُهُ عَلَى ‏"‏فَعْلَان‏"‏ فَإِنَّ جَمْعَهُ عَلَى ‏"‏فُعَالَى‏"‏‏.‏ إِلَّا أَنَّ الْمُسْتَفِيضَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي وَاحِد‏"‏ النَّصَارَى ‏"‏‏"‏ نَصْرَانِيٌّ‏"‏‏.‏ وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ سَمَاعًا‏"‏ نَصْرَانِ ‏"‏ بِطَرْحِ الْيَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

تَرَاهُ إِذَا زَارَ الْعَشِيُّ مُحَنِّفًا *** وَيُضْحِي لَدَيْهِ وَهُوَ نَصْرَانُ شَامِسُ

وَسُمِعَ مِنْهُمْ فِي الْأُنْثَى‏:‏ ‏(‏نَصْرَانَةٌ‏)‏، قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسَهَا *** كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ

يُقَالُ‏:‏ أَسْجَدَ، إِذَا مَالَ‏.‏ وَقَدْ سُمِعَ فِي جَمْعِهِمْ ‏"‏ أَنْصَارُ‏"‏، بِمَعْنَى النَّصَارَى‏.‏ قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

لَمَّا رَأَيْتُ نَبَطًا أَنْصَارَا *** شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتِيَ الْإِزَارَا

كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا ***

وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا، تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سُمُّوا ‏"‏نَصَارَى‏"‏ لِنُصْرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَتَنَاصُرِهِمْ بَيْنَهُمْ‏.‏ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ سُمُّوا ‏"‏نَصَارَى‏"‏، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ نَـزَلُوا أَرْضًا يُقَالُ لَهَا‏"‏ نَاصِرَةُ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏(‏النَّصَارَى‏)‏ إِنَّمَا سُمُّوا نَصَارَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ نَـزَلُوا أَرْضًا يُقَالُ لَهَا ‏"‏ نَاصِرَةُ‏"‏‏.‏

وَيَقُولُ آخَرُونَ‏:‏ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الصَّفِّ‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُرْتَضًى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا سُمِّيَتِ النَّصَارَى نَصَارَى، لِأَنَّ قَرْيَةَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ كَانَتْ تُسَمَّى ‏"‏نَاصِرَةُ‏"‏، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُسَمَّوْنَ النَّاصِرِيِّينَ، وَكَانَ يُقَالُ لِعِيسَى‏:‏ ‏"‏ النَّاصِرِيُّ‏"‏‏.‏

حُدِّثْتُ بِذَلِكَ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ إِنَّمَا سُمُّوا نَصَارَى، لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ يَنْـزِلُهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَهُوَ اسْمٌ تَسَمَّوْا بِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 22‏]‏ قَالَ‏:‏ تُسُمُّوا بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا ‏"‏ نَاصِرَةُ‏"‏، كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَنْـزِلُهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالصَّابِئِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَ ‏"‏الصَّابِئُونَ ‏"‏الْمَقْصُودُ بِهِمْ جَمْع‏"‏ صَابِئٍ‏"‏، وَهُوَ الْمُسْتَحْدِثُ سِوَى دِينِهِ دِينًا، كَالْمُرْتَدِّ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَنْ دِينِهِ‏.‏ وَكُلٌّ خَارِجٍ مِنْ دِينٍ كَانَ عَلَيْهِ إِلَى آخَرٍ غَيْرِهِ، تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ‏:‏ ‏(‏صَابِئًا‏)‏‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏ صَبَأَ فُلَانٌ يَصْبَأُ صَبْأً‏"‏‏.‏ وَيُقَالُ‏:‏ ‏(‏صَبَأَتِ النُّجُومُ‏)‏‏:‏ إِذَا طَلَعَتْ‏.‏‏"‏ وَصَبَأَ عَلَيْنَا فُلَانٌ مَوْضِعَ كَذَا وَكَذَا‏"‏، يَعْنِي بِهِ‏:‏ طَلَعَ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ يَلْزَمُهُ هَذَا الِاسْمُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ يَلْزَمُ ذَلِكَ كُلَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ دِينٍ إِلَى غَيْرِ دِينٍ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِهَذَا الِاسْمِ، قَوْمٌ لَا دِينَ لَهُمْ

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ‏.‏

وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ جَمِيعًا، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ الصَّابِئُونَ لَيْسُوا بِيَهُودَ وَلَا نَصَارَى، وَلَا دِينَ لَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ الصَّابِئُونَ بَيْنَ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ، لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ‏:‏ ‏(‏الصَّابِئِين‏)‏ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ لَا دِينَ لَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏(‏الصَّابِئِين‏)‏ بَيْنَ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ، لَا دِينَ لَهُمْ‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ قُلْتُ لِعَطَاءٍ‏:‏ ‏(‏الصَّابِئِين‏)‏ زَعَمُوا أَنَّهَا قَبِيلَةٌ مِنْ نَحْوِ السَّوَادِ، لَيْسُوا بِمَجُوسٍ وَلَا يَهُودَ وَلَا نَصَارَى‏.‏ قَالَ‏:‏ قَدْ سَمِعْنَا ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ‏:‏ قَدْ صَبَأَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَالصَّابِئِين‏)‏ قَالَ‏:‏ الصَّابِئُونَ، ‏[‏أَهْلُ‏]‏ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ كَانُوا بِجَزِيرَةِ الْمَوْصِلِ يَقُولُونَ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَلَا كِتَابٌ وَلَا نَبِيٌّ، إِلَّا قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ‏:‏ ‏(‏هَؤُلَاءِ الصَّابِئُونَ‏)‏، يُشَبِّهُونَهُمْ بِهِمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي زِيَادٌ أَنَّ الصَّابِئِينَ يُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيُصَلُّونَ الْخَمْسَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَأَرَادَ أَنْ يَضَعَ عَنْهُمُ الْجِزْيَةَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَخُبِّرَ بَعْدُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ‏.‏

وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَالصَّابِئِينَ‏)‏ قَالَ‏:‏ الصَّابِئُونَ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، يُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيَقْرَءُونَ الزَّبُورَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ‏:‏ الصَّابِئُونَ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ‏.‏ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ‏:‏ وَبَلَغَنِي أَيْضًا أَنَّ الصَّابِئِينَ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَيَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ‏:‏ سُئِلَ السُّدِّيُّ عَنِ الصَّابِئِينَ، فَقَالَ‏:‏ هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل ِقَوْلِه تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏{‏مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏، مَنْ صَدَّقَ وَأَقَرَّ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَمِلَ صَالِحًا فَأَطَاعَ اللَّهَ، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏.‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏، فَلَهُمْ ثَوَابُ عَمَلِهِمُ الصَّالِحِ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ فَأَيْنَ تَمَامُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ‏}‏‏؟‏

قِيلَ‏:‏ تَمَامُهُ جُمْلَةُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏‏.‏ لِأَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَتَرَكَ ذِكْرَ ‏"‏مِنْهُم‏"‏ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، اسْتِغْنَاءً بِمَا ذَكَرَ عَمَّا تَرَكَ ذِكْرَهُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ وَمَا مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ وَكَيْفَ يُؤْمِنُ الْمُؤْمِنُ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ لَيْسَ الْمَعْنَى فِي الْمُؤْمِنِ الْمَعْنَى الَّذِي ظَنَنْتَهُ، مِنِ انْتِقَالٍ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، كَانْتِقَالِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ إِنَّ الَّذِينَ عُنُوا بِذَلِكَ، مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى إِيمَانِهِ بِعِيسَى وَبِمَا جَاءَ بِهِ، حَتَّى أَدْرَكَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، فَقِيلَ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِعِيسَى وَبِمَا جَاءَ بِهِ، إِذْ أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَلَكِنْ مَعْنَى إِيمَانِ الْمُؤْمِنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، ثَبَاتُهُ عَلَى إِيمَانِهِ وَتَرْكِهِ تَبْدِيلَهُ‏.‏ وَأَمَّا إِيمَانُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، فَالتَّصْدِيقُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، فَمَنْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ بِمُحَمَّدٍ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَعْمَلُ صَالِحًا، فَلَمْ يُبَدِّلْ وَلَمْ يُغَيِّرْ حَتَّى تُوُفِّيَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَهُ ثَوَابُ عَمَلِهِ وَأَجْرِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، كَمَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قَالَ‏:‏ ‏(‏فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏)‏، وَإِنَّمَا لَفْظُه‏"‏ مَنْ ‏"‏ لَفْظٌ وَاحِدٌ، وَالْفِعْلُ مَعَهُ مُوَحَّدٌ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ ‏(‏مَنْ‏)‏، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَلِيهِ مِنَ الْفِعْلِ مُوَحَّدًا، فَإِنَّ مَعْنَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، لِأَنَّهُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَصُورَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَغَيَّرُ‏.‏ فَالْعَرَبُ تَوَحِّدُ مَعَهُ الْفِعْلَ- وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى جَمْعٍ- لِلَفْظِهِ، وَتَجَمَعُ أُخْرَى مَعَهُ الْفِعْلَ لِمَعْنَاهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ ‏]‏‏.‏ فَجَمَعَ مَرَّةً مَع‏"‏ مَنْ ‏"‏ الْفِعْلَ لِمَعْنَاهُ، وَوَحَّدَ أُخْرَى مَعَهُ الْفِعْلَ لِأَنَّهُ فِي لَفْظِ الْوَاحِدِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

أَلِمَّـا بِسَـلْمَى عَنْكُمَـا إِنْ عَرَّضْتُمَـا، *** وَقُـولَا لَهَـا‏:‏ عُوجِـي عَلَى مَنْ تَخَلَّفُوا

فَقَالَ‏:‏ ‏(‏تَخَلَّفُوا‏)‏، وَجَعَل‏"‏ مَنْ ‏"‏بِمَنْـزِلَة‏"‏ الَّذِينَ‏"‏، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ‏:‏

تَعَـالَ فَـإِنْ عَـاهَدْتَنِي لَا تَخُـونُنِي *** نَكُـنْ مِثْـلَ مَـنْ يَـا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ

فَثَنَّى ‏"‏يَصْطَحِبَان‏"‏ لِمَعْنَى ‏"‏مَنْ‏"‏‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏، وَحَّد‏"‏ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ‏"‏لِلَفْظ‏"‏ مَنْ‏"‏، وَجَمَعَ ذِكْرَهُمْ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ‏}‏، لِمَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى جَمْعٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ ‏{‏وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَا خَوْفَ عَلَيْهِمْ فِيمَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَعَيْشِهَا، عِنْدَ مُعَايَنَتِهِمْ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ عِنْدَهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ عُنِيَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ‏}‏، مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا‏}‏ الْآيَةُ، قَالَ‏:‏ نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ‏.‏ وَكَانَ سَلْمَانُ مِنْ جُنْدِ يَسَابُورَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَكَانَ ابْنُ الْمَلِكِ صَدِيقًا لَهُ مُؤَاخِيًا، لَا يَقْضِي وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَمْرًا دُونَ صَاحِبِهِ، وَكَانَا يَرْكَبَانِ إِلَى الصَّيْدِ جَمِيعًا‏.‏ فَبَيْنَمَا هُمَا فِي الصَّيْدِ، إِذْ رُفِعَ لَهُمَا بَيْتٌ مِنْ عَبَاءَ، فَأَتَيَاهُ فَإِذَا هُمَا فِيهِ بِرَجُلٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مُصْحَفٌ يَقْرَأُ فِيهِ وَهُوَ يَبْكِي‏.‏ فَسَأَلَاهُ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ يَعْلَمَ هَذَا لَا يَقِفُ مَوْقِفَكُمَا، فَإِنْ كُنْتُمَا تُرِيدَانِ أَنْ تَعْلَمَا مَا فِيهِ فَانْـزِلَا حَتَّى أُعَلِّمَكُمَا‏.‏ فَنَـزَلَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا‏:‏ هَذَا كِتَابٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَمَرَ فِيهِ بِطَاعَتِهِ وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ، فِيهِ‏:‏ أَنْ لَا تَزْنِي، وَلَا تَسْرِقَ، وَلَا تَأْخُذَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ‏.‏ فَقَصَّ عَلَيْهِمَا مَا فِيهِ، وَهُوَ الْإِنْجِيلُ الَّذِي أَنْـزَلَهُ اللَّهُ عَلَى عِيسَى‏.‏ فَوَقَعَ فِي قُلُوبِهِمَا، وَتَابِعَاهُ فَأَسْلَمَا‏.‏ وَقَالَ لَهُمَا‏:‏ إِنَّ ذَبِيحَةَ قَوْمِكُمَا عَلَيْكُمَا حَرَامٌ‏.‏

فَلَمْ يَزَالَا مَعَهُ كَذَلِكَ يَتَعَلَّمَانِ مِنْهُ، حَتَّى كَانَ عِيدٌ لِلْمَلِكِ، فَجَعَلَ طَعَامًا، ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ وَالْأَشْرَافَ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الْمَلِكِ فَدَعَاهُ إِلَى صَنِيعِهِ لِيَأْكُلَ مَعَ النَّاسِ‏.‏ فَأَبَى الْفَتَى، وَقَالَ‏:‏ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولٌ، فَكُلْ أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ‏.‏ فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ مِنَ الرُّسُلِ، أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِمْ‏.‏ فَبَعَثَ الْمَلِكُ إِلَى ابْنِهِ فَدَعَاهُ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ مَا أَمْرُكَ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ ذَبَائِحِكُمْ، إِنَّكُمْ كُفَّارٌ، لَيْسَ تَحِلُّ ذَبَائِحُكُمْ‏.‏ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ‏:‏ مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا‏؟‏ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الرَّاهِبَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ‏.‏ فَدَعَا الرَّاهِبَ فَقَالَ‏:‏ مَاذَا يَقُولُ ابْنِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ صَدَقَ ابْنُكَ‏.‏ قَالَ لَهُ‏:‏ لَوْلَا أَنَّ الدَّمَ فِينَا عَظِيمٌ لَقَتَلْتُكَ، وَلَكِنُ اخْرُجْ مِنْ أَرْضِنَا‏.‏ فَأَجَّلَهُ أَجَلًا‏.‏ فَقَالَ سَلْمَانُ‏:‏ فَقُمْنَا نَبْكِي عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا‏:‏ إِنْ كُنْتُمَا صَادِقَيْنِ، فَإِنَّا فِي بَيْعَةٍ بِالْمَوْصِلِ مَعَ سِتِّينَ رَجُلًا نَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا، فَأْتُونَا فِيهَا‏.‏

فَخَرَجَ الرَّاهِبُ، وَبَقِيَ سَلْمَانُ وَابْنُ الْمَلِكِ‏:‏ فَجَعَلَ يَقُولُ لِابْنِ الْمَلِكِ‏:‏ انْطَلِقْ بِنَا‏!‏ وَابْنُ الْمَلِكِ يَقُولُ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ وَجَعَلَ ابْنُ الْمَلِكِ يَبِيعُ مَتَاعَهُ يُرِيدُ الْجِهَازَ‏.‏ فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَى سَلْمَانَ، خَرَجَ سَلْمَانُ حَتَّى أَتَاهُمْ، فَنَـزَلَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَهُوَ رَبُّ الْبَيْعَةِ‏.‏ وَكَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْبَيْعَةِ مِنْ أَفْضَلِ الرُّهْبَانِ، فَكَانَ سَلْمَانُ‏:‏ مَعَهُمْ يَجْتَهِدُ فِي الْعِبَادَةِ وَيُتْعِبُ نَفْسَهُ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ‏:‏ إِنَّكَ غُلَامٌ حَدَثٌ تَتَكَلَّفُ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا لَا تُطِيقُ، وَأَنَا خَائِفٌ أَنْ تَفْتُرَ وَتَعْجِزَ، فَارْفُقْ بِنَفْسِكَ وَخَفِّفْ عَلَيْهَا‏.‏ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ‏:‏ أَرَأَيْتَ الَّذِي تَأْمُرُنِي بِهِ، أَهُوَ أَفْضَلُ أَوِ الَّذِي أَصْنَعُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلِ الَّذِي تَصْنَعُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَخَلِّ عَنِّي‏.‏

ثُمَّ إِنْ صَاحِبَ الْبَيْعَةِ دَعَاهُ فَقَالَ‏:‏ أَتَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْبَيْعَةَ لِي، وَأَنَا أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْرِجَ هَؤُلَاءِ مِنْهَا لَفَعَلْتُ‏!‏ وَلَكِنِّي رَجُلٌ أَضْعُفُ عَنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَحَوَّلَ مِنْ هَذِهِ الْبَيْعَةِ إِلَى بَيْعَةٍ أُخْرَى هُمْ أَهْوَنُ عِبَادَةً مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُقِيمَ هَاهُنَا فَأَقِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَنْطَلِقَ مَعِي فَانْطَلِقْ‏.‏ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ‏:‏ أَيُّ الْبَيْعَتَيْنِ أَفْضَلُ أَهْلًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذِهِ‏.‏ قَالَ سَلْمَانُ‏:‏ فَأَنَا أَكُونُ فِي هَذِهِ‏.‏ فَأَقَامَ سَلْمَانُ بِهَا وَأَوْصَى صَاحِبُ الْبَيْعَةِ عَالِمَ الْبَيْعَةِ بِسَلْمَانَ، فَكَانَ سَلْمَانُ يَتَعَبَّدُ مَعَهُمْ‏.‏

ثُمَّ إِنَّ الشَّيْخَ الْعَالِمَ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ لِسَلْمَانَ‏:‏ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَنْطَلِقَ مَعِي فَانْطَلِقْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُقِيمَ فَأَقِمْ‏.‏ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ‏:‏ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، أَنْطَلِقُ مَعَكَ أَمْ أُقِيمُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا بَلْ تَنْطَلِقُ مَعِي‏.‏ فَانْطَلَقَ مَعَهُ‏.‏ فَمَرُّوا بِمُقْعَدٍ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ مُلْقَى، فَلَمَّا رَآهُمَا نَادَى‏:‏ يَا سَيِّدَ الرُّهْبَانِ، ارْحَمْنِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ ‏!‏ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ‏.‏ وَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ الشَّيْخُ لِسَلْمَانَ‏:‏ اخْرُجْ فَاطْلُبِ الْعِلْمَ، فَإِنَّهُ يَحْضُرُ هَذَا الْمَسْجِدَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْأَرْضِ‏.‏ فَخَرَجَ سَلْمَانُ يَسْمَعُ مِنْهُمْ، فَرَجَعَ يَوْمًا حَزِينًا، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ‏:‏ مَا لَكَ يَا سَلْمَانُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَرَى الْخَيْرَ كُلَّهُ قَدْ ذَهَبَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ‏!‏ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ‏:‏ يَا سَلْمَانُ لَا تَحْزَنُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَقِيَ نَبِيٌّ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ بِأَفْضَلَ تَبَعًا مِنْهُ، وَهَذَا زَمَانُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَلَا أَرَانِي أُدْرِكُهُ، وَأَمَّا أَنْتَ فَشَابٌّ لَعَلَّكَ أَنْ تُدْرِكَهُ، وَهُوَ يَخْرُجُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ فَإِنْ أَدْرَكْتَهُ فَآمِنْ بِهِ وَاتَّبِعْهُ‏.‏ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ‏:‏ فَأَخْبِرْنِي عَنْ عَلَامَتِهِ بِشَيْءٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، هُوَ مَخْتُومٌ فِي ظَهْرِهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ‏.‏ ثُمَّ رَجَعَا حَتَّى بَلَغَا مَكَانَ الْمُقْعَدِ، فَنَادَاهُمَا فَقَالَ‏:‏ يَا سَيِّدَ الرُّهْبَانِ، ارْحَمْنِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ ‏!‏ فَعَطَفَ إِلَيْهِ حِمَارَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَرَفْعَهُ، فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ وَدَعَا لَهُ وَقَالَ‏:‏ قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ‏!‏ فَقَامَ صَحِيحًا يَشْتَدُّ، فَجَعَلَ سَلْمَانُ يَتَعَجَّبُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ يَشْتَدُّ‏.‏ وَسَارَ الرَّاهِبُ فَتَغَيَّبَ عَنْ سَلْمَانَ، وَلَا يَعْلَمُ سَلْمَانُ‏.‏

ثُمَّ إِنْ سَلْمَانَ فَزِعَ فَطَلَبَ الرَّاهِبَ‏.‏ فَلَقِيَهُ رَجُلَانِ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ كَلْبٍ، فَسَأَلَهُمَا‏:‏ هَلْ رَأَيْتُمَا الرَّاهِبَ‏؟‏ فَأَنَاخَ أَحَدُهُمَا رَاحِلَتَهُ، قَالَ‏:‏ نَعَمْ رَاعِي الصِّرْمَةِ هَذَا‏!‏ فَحَمَلَهُ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ‏.‏

قَالَ سَلْمَانُ‏:‏ فَأَصَابَنِي مِنَ الْحُزْنِ شَيْءٌ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ‏.‏ فَاشْتَرَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ فَكَانَ يَرْعَى عَلَيْهَا هُوَ وَغُلَامٌ لَهَا يَتَرَاوَحَانِ الْغَنَمَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا، فَكَانَ سَلْمَانُ يَجْمَعُ الدَّرَاهِمَ يَنْتَظِرُ خُرُوجَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا يَرْعَى، إِذْ أَتَاهُ صَاحِبُهُ الَّذِي يَعْقُبُهُ، فَقَالَ‏:‏ أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ قَدِمَ الْيَوْمَ الْمَدِينَةَ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ‏:‏ أَقِمْ فِي الْغَنَمِ حَتَّى آتِيكَ‏.‏

فَهَبَطَ سَلْمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَظَرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَارَ حَوْلَهُ‏.‏ فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ مَا يُرِيدُ، فَأَرْسَلَ ثَوْبَهُ حَتَّى خَرَجَ خَاتَمُهُ، فَلِمَا رَآهُ أَتَاهُ وَكَلَّمَهُ‏.‏ ثُمَّ انْطَلَقَ فَاشْتَرَى بِدِينَارٍ، بِبَعْضِهِ شَاةً وَبِبَعْضِهِ خُبْزًا، ثُمَّ أَتَاهُ بِهِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏ قَالَ سَلْمَانُ‏:‏ هَذِهِ صَدَقَةٌ قَالَ‏:‏ لَا حَاجَةَ لِي بِهَا، فَأَخْرِجْهَا فَلْيَأْكُلْهَا الْمُسْلِمُونَ‏"‏‏.‏ ثُمَّ انْطَلَقَ فَاشْتَرَى بِدِينَارٍ آخَرَ خُبْزًا وَلَحْمًا، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذِهِ هَدِيَّةٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَاقْعُدْ ‏[‏فَكُلْ‏]‏ فَقَعَدَ فَأَكَلَا جَمِيعًا مِنْهَا‏.‏ فَبَيْنَا هُوَ يُحَدِّثُهُ إِذْ ذَكَرَ أَصْحَابَهُ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ فَقَالَ‏:‏ كَانُوا يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيُؤَمِنُونَ بِكَ، وَيَشْهَدُونَ أَنَّكَ سَتُبْعَثُ نَبِيًّا‏.‏ فَلَمَّا فَرَغَ سَلْمَانُ مِنْ ثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ، قَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ يَا سَلْمَانُ، هَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ‏.‏ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى سَلْمَانَ، وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ‏:‏ لَوْ أَدْرَكُوكَ صَدَّقُوكَ وَاتَّبَعُوكَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏‏.‏

فَكَانَ إِيمَانُ الْيَهُودِ‏:‏ أَنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْرَاةِ وَسُنَّةِ مُوسَى، حَتَّى جَاءَ عِيسَى‏.‏ فَلَمَّا جَاءَ عِيسَى كَانَ مَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْرَاةِ وَأَخَذَ بِسُنَّةِ مُوسَى- فَلَمْ يَدَعْهَا وَلَمْ يَتَّبِعْ عِيسَى- كَانَ هَالِكًا‏.‏ وَإِيمَانُ النَّصَارَى‏:‏ أَنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْإِنْجِيلِ مِنْهُمْ وَشَرَائِعِ عِيسَى كَانَ مُؤْمِنًا مَقْبُولًا مِنْهُ، حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ وَيَدَعْ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ سُنَّةِ عِيسَى وَالْإِنْجِيلِ- كَانَ هَالِكًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا‏}‏الْآيَةُ‏.‏ قَالَ «سَأَلَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُولَئِكَ النَّصَارَى وَمَا رَأَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ، قَالَ‏:‏ لَمْ يَمُوتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ‏.‏ قَالَ سَلْمَانُ‏:‏ فَأَظْلَمَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ، وَذَكَرْتُ اجْتِهَادَهُمْ، فَنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا‏)‏‏.‏ فَدَعَا سَلْمَانَ فَقَالَ‏:‏ نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِكَ‏"‏‏.‏ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم‏"‏ مَنْ مَاتَ عَلَى دِينِ عِيسَى وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ بِي، فَهُوَ عَلَى خَيْرٍ؛ وَمِنْ سَمِعَ بِي الْيَوْمَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِي فَقَدْ هَلَكَ‏)‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَا‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 85‏]‏

وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَرَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ كَانَ قَدْ وَعَدَ مَنْ عَمِلَ صَالَحًا- مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ- عَلَى عَمَلِهِ، فِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةَ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ‏:‏ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالَّذِينَ هَادُوا، وَالنَّصَارَى، وَالصَّابِئِينَ- مَنْ آمَنَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ- فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏.‏

وَالَّذِي قُلْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، أَشْبَهُ بِظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يُخَصِّصْ- بِالْأَجْرِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَ الْإِيمَانِ- بَعْضَ خَلْقِهِ دُونَ بَعْضٍ مِنْهُمْ، وَالْخَبَرُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏، عَنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ ‏(‏الْمِيثَاقُ‏)‏، ‏"‏ الْمِفْعَالُ‏"‏، مِنَ ‏"‏ الْوَثِيقَةِ‏"‏، إِمَّا بِيَمِينٍ، وَإِمَّا بِعَهْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَثَائِقِ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ‏}‏ الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ ‏]‏ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرَ مَعَهَا‏.‏ وَكَانَ سَبَبُ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ- فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ زَيْدٍ- مَا‏:‏

حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ لَمَّا رَجَعَ مُوسَى مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ بِالْأَلْوَاحِ‏.‏ قَالَ لِقَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْأَلْوَاحَ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ أَمْرُهُ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهْيُهُ الَّذِي نَهَاكُمْ عَنْهُ‏.‏ فَقَالُوا‏:‏ وَمَنْ يَأْخُذُهُ بِقَوْلِكَ أَنْتَ‏؟‏ لَا وَاللَّهِ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، حَتَّى يَطَّلِعَ اللَّهُ إِلَيْنَا فَيَقُولُ‏:‏ هَذَا كِتَابِي فَخُذُوهُ‏!‏ فَمَا لَهُ لَا يُكَلِّمُنَا كَمَا كَلَّمَكَ أَنْتَ يَا مُوسَى، فَيَقُولُ‏:‏ هَذَا كِتَابِي فَخُذُوهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَجَاءَتْ غَضْبَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَجَاءَتْهُمْ صَاعِقَةٌ فَصَعَقَتْهُمْ، فَمَاتُوا أَجْمَعُونَ‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى‏:‏ خُذُوا كِتَابَ اللَّهِ‏.‏ فَقَالُوا‏:‏ لَا‏.‏ قَالَ‏:‏ أَيُّ شَيْءٍ أَصَابَكُمْ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ مِتْنَا ثُمَّ حَيِينَا‏!‏ قَالَ‏:‏ خُذُوا كِتَابَ اللَّهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ لَا‏.‏ فَبَعَثَ مَلَائِكَتَهُ فَنَتَقَتِ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ‏:‏ أَتَعْرِفُونَ هَذَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ، هَذَا الطُّورُ، قَالَ‏:‏ خُذُوا الْكِتَابَ وَإِلَّا طَرَحْنَاهُ عَلَيْكُمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَأَخَذُوهُ بِالْمِيثَاقِ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏{‏وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ ‏]‏، قَالَ‏:‏ وَلَوْ كَانُوا أَخَذُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، لَأَخَذُوهُ بِغَيْرِ مِيثَاقٍ‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا ‏"‏الطُّور‏"‏ فَإِنَّهُ الْجَبَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ‏:‏

دَانَى جَنَاحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرْ

تَقَضِّيَ الْبَازِي إِذَا الْبَازِي كَسَرْ

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ اسْمُ جَبَلٍ بِعَيْنِهِ‏.‏ وَذُكِرَ أَنَّهُ الْجَبَلُ الَّذِي نَاجَى اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ مِنَ الْجِبَالِ مَا أَنْبَتَ دُونَ مَا لَمْ يُنْبِتْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ‏:‏ هُوَ الْجَبَلُ كَائِنًا مَا كَانَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ أَمَرَ مُوسَى قَوْمَهُ أَنْ يَدْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَيَقُولُوا‏:‏ ‏(‏حِطَّة‏)‏ وَطُؤْطِئَ لَهُمُ الْبَابُ لِيَسْجُدُوا، فَلَمْ يَسْجُدُوا وَدَخَلُوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ، وَقَالُوا حِنْطَةٌ‏.‏ فَنَتَقَ فَوْقَهُمُ الْجَبَلُ- يَقُولُ‏:‏ أُخْرِجَ أَصْلُ الْجَبَلِ مِنَ الْأَرْضِ فَرَفَعَهُ فَوْقَهُمْ كَالظُّلَّةِ وَ‏"‏ الطُّورُ‏"‏، بِالسُّرْيَانِيَّةِ، الْجَبَلُ تَخْوِيفًا، أَوْ خَوْفًا، شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ، فَدَخَلُوا سُجَّدًا عَلَى خَوْفٍ، وَأَعْيُنُهُمْ إِلَى الْجَبَلِ‏.‏ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي تَجَلَّى لَهُ رَبُّهُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ رُفِعَ الْجَبَلُ فَوْقَهُمْ كَالسَّحَابَةِ، فَقِيلَ لَهُمْ‏:‏ لَتُؤْمِنُنَّ أَوْ لَيَقَعَنَّ عَلَيْكُمْ‏.‏ فَآمَنُوا‏.‏ وَالْجَبَلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ‏:‏ ‏(‏الطُّورُ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الطُّورُ الْجَبَلُ؛ كَانُوا بِأَصْلِهِ، فَرُفِعَ عَلَيْهِمْ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ، فَقَالَ‏:‏ لَتَأْخُذُنَّ أَمْرِي، أَوْ لَأَرْمِيَنَّكُمْ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الطُّورُ الْجَبَلُ‏.‏ اقْتَلَعَهُ اللَّهُ فَرَفَعَهُ فَوْقَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏ فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ‏}‏ قَالَ‏:‏ رَفَعَ فَوْقَهُمُ الْجَبَلَ، يُخَوِّفُهُمْ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ النَّضِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ‏:‏ الطُّورُ الْجَبَلُ‏.‏

وَحَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ لَمَّا قَالَ اللَّهُ لَهُمُ‏:‏ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ‏.‏ فَأَبَوْا أَنْ يَسْجُدُوا، أَمَرَ اللَّهُ الْجَبَلَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ وَقَدْ غَشِيَهُمْ، فَسَقَطُوا سُجَّدًا عَلَى شِقٍّ، وَنَظَرُوا بِالشِّقِّ الْآخَرِ، فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ فَكَشَفَهُ عَنْهُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 171‏]‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ‏}‏‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ الْجَبَلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ الطُّورُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ‏(‏الطُّور‏)‏ اسْمٌ لِلْجَبَلِ الَّذِي نَاجَى اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ الطُّورُ، الْجَبَلُ الَّذِي أُنْـزِلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ- يَعْنِي عَلَى مُوسَى- وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَسْفَلَ مِنْهُ‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ وَقَالَ لِي عَطَاءٌ‏:‏ رَفَعَ الْجَبَلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ‏:‏ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ أَوْ لَيَقَعَنَّ عَلَيْكُمْ‏.‏ فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ‏)‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ الطُّورُ، مِنَ الْجِبَالِ، مَا أَنْبَتَ خَاصَّةً‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ قَالَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏الطُّورُ‏)‏ قَالَ‏:‏ الطُّورُ مِنَ الْجِبَالِ مَا أَنْبَتَ، وَمَا لَمْ يُنْبِتْ فَلَيْسَ بِطُورٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْبَصْرَةِ‏:‏ هُوَ مِمَّا اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ الْمَذْكُورِ عَمَّا تُرِكَ ذِكْرُهُ لَهُ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ، وَقُلْنَا لَكُمْ‏:‏ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ، وَإِلَّا قَذَفْنَاهُ عَلَيْكُمْ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْكُوفَةِ‏:‏ أَخْذُ الْمِيثَاقِ قَوْلٌ فَلَا حَاجَةَ بِالْكَلَامِ إِلَى إِضْمَارِ قَوْلٍ فِيهِ، فَيَكُونُ مِنْ كَلَامَيْنِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مَا خَالَفَ الْقَوْلَ مِنَ الْكَلَامِ- الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ- أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ‏"‏أَن‏"‏ كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ‏}‏ ‏[‏نُوحٍ‏:‏ 1‏]‏ قَالَ‏:‏ وَيَجُوزُ أَنْ تُحْذَفَ ‏"‏ أَنْ‏"‏‏.‏

وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا‏:‏ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ نُطِقَ بِهِ- مَفْهُومٌ بِهِ مَعْنَى مَا أُرِيدَ- فَفِيهِ الْكِفَايَةُ مِنْ غَيْرِهِ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ‏}‏، مَا أَمَرْنَاكُمْ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ‏.‏

وَأَصْلُ ‏"‏ الْإِيتَاءِ‏"‏، الْإِعْطَاءُ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏بِقُوَّةٍ‏)‏ بِجِدٍّ فِي تَأْدِيَةِ مَا أَمَرَكُمْ فِيهِ وَافْتَرَضَ عَلَيْكُمْ، كَمَا‏:‏

حُدِّثْتُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشَّارٍ قَالَ،‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ تَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ بِطَاعَةٍ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّازِقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏الْقُوَّة‏)‏ الْجِدُّ، وَإِلَّا قَذَفْتُهُ عَلَيْكُمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَا أُوتُوا بِقُوَّةٍ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏(‏بِقُوَّةٍ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ- وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏- قَالَ‏:‏ خُذُوا الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى بِصِدْقٍ وَبِحَقٍّ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا‏:‏ خُذُوا مَا افْتَرَضْنَاهُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِنَا مِنَ الْفَرَائِضِ، فَاقْبَلُوهُ، وَاعْمَلُوا بِاجْتِهَادٍ مِنْكُمْ فِي أَدَائِهِ، مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ وَلَا تَوَانٍ‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى أَخْذِهِمْ إِيَّاهُ بِقُوَّةٍ، بِجِدٍّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏{‏وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي‏:‏ وَاذْكُرُوا مَا فِيمَا آتَيْنَاكُمْ مِنْ كِتَابِنَا مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ شَدِيدٍ، وَتَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ، فَاتْلُوهُ، وَاعْتَبِرُوا بِهِ، وَتَدَبَّرُوهُ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، كَيْ تَتَّقُوا وَتَخَافُوا عِقَابِي، بِإِصْرَارِكُمْ عَلَى ضَلَالِكُمْ فَتَنْتَهُوا إِلَى طَاعَتِي، وَتَنْـزِعُوا عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَتِي‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏)‏، قَالَ‏:‏ تَنْـزِعُونَ عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ‏.‏

وَالَّذِي آتَاهُمُ اللَّهُ، هُوَ التَّوْرَاةُ‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ اذْكُرُوا مَا فِي التَّوْرَاةِ‏.‏

كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ أُمِرُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، سَأَلْتُ ابْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ‏)‏، قَالَ‏:‏ اعْمَلُوا بِمَا فِيهِ بِطَاعَةٍ لِلَّهِ وَصِدْقٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَالَ‏:‏ اذْكُرُوا مَا فِيهِ، لَا تَنْسَوْهُ وَلَا تُغْفِلُوهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏(‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ‏)‏‏:‏ ثُمَّ أَعْرَضْتُمْ‏.‏ وَإِنَّمَا هُوَ ‏"‏تَفَعَّلْتُم‏"‏ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏(‏وَلَّانِي فُلَانٌ دُبَرَه‏)‏ إِذَا اسْتَدْبَرَ عَنْهُ وَخَلَّفَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ‏.‏ ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ تَارِكِ طَاعَةِ أَمْرٍ بِهَا، وَمُعْرِضٍ بِوَجْهِهِ‏.‏ يُقَالُ‏:‏ ‏(‏قَدْ تَوَلَّى فُلَانٌ عَنْ طَاعَةِ فُلَانٍ، وَتَوَلَّى عَنْ مُوَاصَلَتِهِ‏)‏، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 76‏]‏، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ خَالَفُوا مَا كَانُوا وَعَدُوا اللَّهَ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏{‏لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 75‏]‏، وَنَبَذُوا ذَلِكَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ

وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ اسْتِعَارَةُ الْكَلِمَةِ وَوَضْعُهَا مَكَانَ نَظِيرِهَا، كَمَا قَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيُّ‏:‏

فَلَيْسَ كَعَهْدِ *** الدَّارِ يَا أُمَّ مَالِكٍ

وَلَكِنْ أَحَاطَتْ *** بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ

وَعَادَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ *** لَيْسَ بِقَائِلٍ

سِوَى الْحَقِّ شَيْئًا *** وَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ‏)‏، أَنَّ الْإِسْلَامَ صَارَ- فِي مَنْعِهِ إِيَّانَا مَا كُنَّا نَأْتِيهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْإِسْلَامِ- بِمَنْـزِلَةِ السَّلَاسِلِ الْمُحِيطَةِ بِرِقَابِنَا، الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ مَنْ كَانَتْ فِي رَقَبَتِهِ مَعَ الْغِلِّ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَبَيْنَ مَا حَاوَلَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ‏.‏

وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ أَنَّكُمْ تَرَكْتُمُ الْعَمَلَ بِمَا أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَعُهُودَكُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، بَعْدَ إِعْطَائِكُمْ رَبَّكُمُ الْمَوَاثِيقَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَالْقِيَامِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ فِي كِتَابِكُمْ، فَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ‏.‏

وَكَنَّى بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏ذَلِكَ‏)‏، عَنْ جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَعْنِي قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ‏{‏فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ‏}‏، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ نَكْثِكُمُ الْمِيثَاقَ الَّذِي وَاثَقْتُمُوهُ- إِذْ رَفَعَ فَوْقَكُمُ الطُّورَ- بِأَنَّكُمْ تَجْتَهِدُونَ فِي طَاعَتِهِ، وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَالْقِيَامِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ فِي الْكُتَّابِ الَّذِي آتَاكُمْ، فَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِالْإِسْلَامِ وَرَحْمَتِهِ الَّتِي رَحِمَكُمْ بِهَا- وَتَجَاوَزَ عَنْكُمْ خَطِيئَتَكُمُ الَّتِي رَكِبْتُمُوهَا- بِمُرَاجَعَتِكُمْ طَاعَةَ رَبِّكُمْ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏.‏

وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِمَنْ كَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيَّامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ أَسْلَافِهِمْ، فَأَخْرَجَ الْخَبَرَ مَخْرَجَ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ- عَلَى نَحْوِ مَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى، مِنْ أَنَّ الْقَبِيلَةَ مِنَ الْعَرَبِ تُخَاطِبُ الْقَبِيلَةَ عِنْدَ الْفَخَّارِ أَوْ غَيْرِهِ، بِمَا مَضَى مِنْ فِعْلِ أَسْلَافِ الْمُخَاطِبِ بِأَسْلَافِ الْمُخَاطَبِ، فَتُضِيفُ فِعْلَ أَسْلَافِ الْمُخَاطِبِ إِلَى نَفْسِهَا، فَتَقُولُ‏:‏ فَعَلْنَا بِكُمْ، وَفَعَلْنَا بِكُمْ‏.‏ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ الشَّوَاهِدِ فِي ذَلِكَ مِنْ شِعْرِهِمْ فِيمَا مَضَى‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، إِنَّمَا أُخْرِجَ بِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، وَالْفِعْلُ لِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ مَنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَوَائِلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَصَيَّرَهُمُ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ أَجْلِ وِلَايَتِهِمْ لَهُمْ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ سَامِعِيهِ كَانُوا عَالِمِينَ- وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ خَرَجَ خِطَابًا لِلْأَحْيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ- أَنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَمَّا قَصَّ اللَّهُ مِنْ أَنْبَاءِ أَسْلَافِهِمْ‏.‏ فَاسْتَغْنَى بِعِلْمِ السَّامِعِينَ بِذَلِكَ، عَنْ ذِكْرِ أَسْلَافِهِمْ بِأَعْيَانِهِمْ‏.‏ وَمِثْلُ ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ‏:‏

إِذْ مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ *** وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بِهِ بُدًّا

فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا مَا انْتَسَبْنَا‏)‏، وَ‏"‏ إِذَا‏"‏ تَقْتَضِي مِنَ الْفِعْلِ مُسْتَقْبَلًا ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ‏)‏، فَأَخْبَرَ عَنْ مَاضٍ مِنَ الْفِعْلِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْوِلَادَةَ قَدْ مَضَتْ وَتَقَدَّمَتْ‏.‏ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ- عِنْدَ الْمُحْتَجِّ بِهِ- لِأَنَّ السَّامِعَ قَدْ فَهِمَ مَعْنَاهُ‏.‏ فَجَعَلَ مَا ذَكَرْنَا- مِنْ خِطَابِ اللَّهِ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِإِضَافَةِ أَفْعَالِ أَسْلَافِهِمْ إِلَيْهِمْ- نَظِيرَ ذَلِكَ‏.‏

وَالْأَوَّلُ الَّذِي قُلْنَا، هُوَ الْمُسْتَفِيضُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَخِطَابِهَا‏.‏

وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏- فِيمَا ذُكِرَ لَنَا- نَحْوَ الْقَوْلِ الَّذِي قُلْنَاهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضِرِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَضْلُ اللَّهِ‏)‏، الْإِسْلَامُ، ‏"‏ وَرَحْمَتُهُ‏"‏، الْقُرْآنُ‏.‏

وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ‏[‏عَنْ أَبِيهِ‏]‏، عَنِ الرَّبِيعِ بِمِثْلِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ إِيَّاكُمْ- بِإِنْقَاذِهِ إِيَّاكُمْ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْكُمْ مِنْ خَطِيئَتِكُمْ وَجُرْمِكُمْ- لَكُنْتُمُ الْبَاخِسِينَ أَنْفُسَكُمْ حُظُوظَهَا دَائِمًا، الْهَالِكِينَ بِمَا اجْتَرَمْتُمْ مِنْ نَقْضِ مِيثَاقِكُمْ، وَخِلَافِكُمْ أَمْرَهُ وَطَاعَتَهُ‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُنَا قَبْلُ بِالشَّوَاهِدِ، عَنْ مَعْنَى ‏"‏الْخَسَار‏"‏ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏